لم يكن يحيى حقي مجرد أديب أضاف بصمته إلى الأدب العربي، بل كان حالة إنسانية وفكرية استثنائية تجسدت في كلماته وكتاباته. عبقريته في القصة القصيرة ورؤيته العميقة للعالم من حوله جعلاه أحد أعمدة الأدب الحديث، وفتحت أبوابًا جديدة للخيال والتعبير الأدبي.
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
القصة القصيرة حبه الأول، ويتوهج في تجربته الروائية الوحيدة الفريدة:"صح النوم". يكتب عن السينما مثل ناقد محترف، ومعالجاته التاريخية عميقة طازجة مبتكرة تفوق الأكاديمي المتمرس.
يتعلم القارىء من صاحب"قنديل أم هاشم" و"أم العواجز" و"دماء وطين" و"الفراش الشاغر"، وغير ذلك من روائعه، أن يحب اللغة ويتعامل معها باحترام يقترب من التقديس، ويتعلم أيضا كيف يقترب من البسطاء، أولئك الذين يعيشون في الظل بعيدا عن الأضواء. معهم تشعر بالألفة، وتزول الغربة، وتتبخر المرارة، وتشم ذلك العطر الفريد الذي يسميه حقي:"عطر الأحباب".
في القرية- الوطن، حيث تدور أحداث"صح النوم"، تعيش نماذج إنسانية شتى، ذات توجهات وسلوكيات مختلفة، يستعرض يحيى حقي ملامحها وسماتها المادية والنفسية ببراعته المعهودة وحسه الإنساني المرهف المتسامح الذي لا يعرف التشنج والإسراف الانفعالي وضيق الأفق وسيطرة النزعة الأحادية الخانقة.
العمدة، الحاكم المحلي باهت الحضور، ليس زعيما ولا يملك مؤهلات الزعامة، فهو خانع تابع تافه الشأن، والأمل الكامن معقود على الغائب الذي يمثل الامتداد الحقيقي للزعيم الراحل الذي لم يفلح في إنجاز المأمول من آمال وأحلام. وقد اعتزمت أنا وأصدقائي أن نحمل الناس على سلوك هذا الطريق بالحسنى أول الأمر، وإلا فبالزجر والشدة. وستتطوع منا جماعة لمراقبة الناس في المتاجر والأسواق، بل في بيوتهم إذ ينبغي لكل معوج أن يستقيم، ولا يُقبل منه عذر، وأن ينصرف الرجال إلى عملهم معرضين عن اللهو والعبث، فالوقت ضيق والشوط أمامنا طويل".
"الانقلاب" الذي يقوده الأستاذ يحقق إنجازات لا يمكن إنكارها أو إهمالها، ومن البدهي أن يشعر العاديون من الناس، هم الأغلبية الساحقة، بحجم التغيير الهائل، والأمر نفسه ينطبق على الراوي الذي يتجول بعد عودته ويرصد حقيقة الإطاحة بالكثير من المفردات القديمة الآسنة الظالمة:"وقد شعرت وأنا أجول في القرية ودساكرها أن الناس قد انتبهوا من نومهم، أيقظهم تولي الأستاذ مقاليد الأمور في القرية وإقامته للقانون بين الناس سواسية ولما لمسوه فيه من إخلاص للخير وانطباق العمل على النية، أيقظهم أن الجبل...
"- يُخيل إليّ أنني سمعت من قبل كلاما لا يماثل فحسب بل يطابق ما سمعته اليوم كلمة كلمة، ويُخيل إليّ أيضا أن قائله هو الواعظ نفسه وأنه قاله في مدح عهد ولى وانقضى..- أتحسبني مغفلا؟ أتظن أنني آكل من هذا الهراء. نعم إنني أعلم أن الواعظ قال مثل هذا الكلام لمن سبقني. وليس هو وحده بل غيره كثيرون". قرب نهاية المقابلة، يقول الأستاذ للراوي:"هل أتم أنا كلامك؟ إنني أعرف بقية قولك لأنني قرأت مذكراتك. تذكرني -وهل أنا غافل!- بالتسامح والانتباه لحقوق الفرد كإنسان حي قبل أن يكون حجرا مسخرا في بناء المجتمع، والتفريق بين إيمانك بأن رأيك صواب وبين إيمانك بأنه كل الصواب، وأن الإخلاص وصواب الرأي توأمان ولكنهما توأمان غير ملتصقين".
الأستاذ، على النحو الذي يقدمه يحيى حقي، شخصية جديرة بالاحترام في ظل التدهور الذي تشهده القرية قبل عودته واستحواذه على السلطة، وهو مخلص جاد حريص على مصالح الأغلبية والارتقاء بمستوى معيشتهم، لكن الخلل كامن في السياسة التي لا تخلو من مثالب وعيوب قد تتفاقم وتفضي إلى كارثة."- إني أنتظر منك أن تقوم بواجبك.ما الذي يعنيه الأستاذ بالواجب؟، هل من وظيفة للروائي إلا أن يشير إلى مواضع الخلل ويطالب بالإصلاح؟.
مصطلح"عضمة زرقة" ذو مغزى سلبي بطبيعة الحال، فهو يوحي بالخبث والمكر والدهاء، لكنه-عمليا- أقرب إلى التعبير الشعبي الدارج الشائع، الذي لا تترتب عليه نتائج تفضي إلى توتر صدامي، ذلك أن سلامة كالمسلمين تماما في ملبسه وأخلاقه وعاداته، ولا تختلف زوجه عن النساء المسلمات، واللوحة في عمومها تخلو من مشاعر التعصب والنفور والكراهية.
لا يحمل المعلم سلامة شيئا من مشاعر التعصب ضد المسلمين من أبناء القرية، لكن التعصب قائم ضد المنتمين إلى المذهب المسيحي المخالف. البروتستانت أقلية في"كوم النحل"، والمبشر الوافد لا يجد السبيل ممهدا إلا بإغراءات بعيدة عن العقيدة والفروق المذهبية. إنه يزرع أحلام التعليم وما يقترن به من صعود اجتماعي، وبفضل هذا السلاح وحده يتخلى سلامة عن ضيقه ورفضه، ويدفع بطفلته إلى عالم جديد تظلله الطموحات، ولم يكن يدري أنه يمهد بقراره هذا لصناعة الفصل الأول في المأساة.
مصر أحدث الأخبار, مصر عناوين
Similar News:يمكنك أيضًا قراءة قصص إخبارية مشابهة لهذه التي قمنا بجمعها من مصادر إخبارية أخرى.
أنشودة البساطة.. 'البوابة' تنشر فصلا من كتاب 'المسكوت عنه فى عالم يحيى حقي' للأديب مصطفى بيوميالمسكوت عنه في عالم يحيى حقي .. هو أحدث كتب الأديب والناقد الكبير مصطفى بيومي، وننشر فى هذا العدد فصلاً من فصول الكتاب، وقبل أن نقرأ الفصل المختار، نقرأ مقدمة الكتاب التى كتبها أديبنا الكبير وجاء فيها:
اقرأ أكثر »
أنشودة البساطة.. أحمد فضل شبلول يكتب: وجوه يحيى حقي تخايلني من 20 سنةكلما ذُكر اسم يحيى حقي، تذكرت الاحتفالية الكبرى التى اقترحتها منظمة اليونسكو، ونظمها المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة من عشرين سنة، وعلى وجه الدقة خلال الفترة ١٢ ـ ١٤ يناير ٢٠٠٥، وكانت بمناسبة مرور مائة عام على ميلاده (١٩٠٥ ـ ١٩٩٢) وحضرها عشرات الأدباء والمثقفين والإعلاميين الذين أسهموا بتعليقاتهم ومداخلاتهم وأسئلتهم فى إثراء الحوار والجدل حول هذا...
اقرأ أكثر »
'يا صلاة الزين'.. فرقة الشرقية للإنشاد الدينى تبدع فى برنامج 'مدد'.. فيديوأبدعت فرقة الشرقية للإنشاد الدينى، فى تقديم أنشودة 'يا صلاة الزين' بأداء روحانى مميز، وذلك خلال استضافتها ببرنامج 'مدد' الذى يقدمه الإعلامى عبد الفتاح مصطفى..
اقرأ أكثر »
فرقة 'تراث' للإنشاد الدينى تبدع فى أنشودة 'مدد يا نبى يا نبى مدد' على الحياة.. فيديوأبدعت فرقة 'تراث' للإنشاد الدينى، فى أداء أنشودة 'مدد يا نبى يا نبى مدد' والتى استضافتها برنامج مدد الذى يقدمه الإعلامى عبد الفتاح مصطفى، على قناة الحياة.
اقرأ أكثر »
وفاة الشاعر الغنائي بخيت بيومي.. صاحب الألفي فزورة وموالرحل عن عالمنا الشاعر الغنائي بخيت بيومي، عن عمر يناهز 82 عامًا بمدينة المنصورة، بمحافظة الدقهلية، بعد مسيرة طويلة فى عالم التأليف الغنائى..
اقرأ أكثر »
مدبولى: التطورات بالمنطقة منبعها غياب ازدواج المعايير الدولية وحل الدولتينضمن فعاليات اليوم الختامي لـ'منتدى الدوحة ٢٠٢٤' الذي يقام بدولة قطر الشقيقة، شارك الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، ضمن منصة جلسة نقاشية بعنوان 'آفاق التعاون في عالم مُنقسم'
اقرأ أكثر »